قراءة لمسرحية مطر الألوان من إعداد وإخراج مسعود عارف
حين يداهمنا عمل مسرحي جاد بكل مقاييسه في صمت وسبات طويلين، نقف  حائرين ونعيش حالة الذهول التي اعتدنا ان نعيشها في بلد جل صفاته الذهول والاندهاش، عرض مسرحي احاط بنا وجعلنا نتأمل في الفضاء الانساني بذهول أكبر فنسرع الى المقارنة بين موقعنا كبشر في هذه الحياة حيث العيش في نقطة باهتة غير واضحة المعالم، بل تكاد تنعدم الملامح فيها قياسا بهذا الكون الشاسع، فنجد انفسنا لا نمثل اي شي واحيانا نجد انفسنا سلطة تغرينا معززات الحياة فندفع حق تهورنا. وبين هذا وذاك تغلب علينا مشاعر متناقضة تبارز بعضها بعضا فننظر للحياة حينا بتشاؤم شديد يولد فينا مشاعر الحزن و فراغا داخليا يسيطر علينا، واحيانا نجد الحياة بقعة امل معلقة بابتسامة طفل يرغب بالعيش على الحان فرقة موسيقية ولدت من رحم الحرب امل نحيا بها للاتي وكأن الحياة  التي يديرها المايسترو الغائب الحاضر اصبحت رحلة في عرس الهي مقام للبشر في كل مكان وزمان، فلا تحديات الحياة  تسرق فينا احلامنا العتيقة ولا همسات الصمت الجارحة بامكانها ان تقتل فينا الكلمات، فندرك حينها ان بعد الرعد ينهمر المطر دائما.
اذا هي حالة الرجوع الى الذات الى الجانب المخفي من الانسان.. هي حالة من البقاء ضمن دائرة الاستمرار او اللااستمرار… وكأن صوت داخلي يعلو صارخا ابقى هنا…. حيث الموسيقى والمطر والالوان …. وينعدم لا… ابقى هناك حيث اصوات المدافع وقتل الحلم فيصبح كل شيء لا شيء… ولا شيء كل شيء وتبدأ التساؤلات تنافس قطرات المطر هطولا واولها هل تتغير الاحلام بتغيير الزمن؟ ام ان للزمن سلطة على تشكيل الاحلام؟ نبقى ساكنين ونجد انفسنا احيانا جزء من احلامنا وقد لا نكون.. او نكون مجرد احلام يحلم بها غيرنا فيغير من مجرى حياتنا كيفما يشاء ومتى ما شاء…. أو قد نكون انصاف الهة في طور الحلم فنصنع في عقولنا مدنا وبشرا واماني ونصنع لهولاء البشر احلامهم ونشكلها مثلما نريد. اذا هو الحلم ما يبقينا هنا في هذا المكان او ذاك  في دائرة هذه الالة الموسيقة او تلك علها تعزف حلما بعيدا عن سلطة الدولة او سلطة الرصاصة التي تهين الانسان قبل الحلم، هو الحلم الذي يبقينا في حالة الوجود او العدم.. في هذه البقعة التي تهالكت بمرور الزمن وصار الحرب جزء كبير من ذاكرتها والموت صار محفورا في باطنها وتاريخا ما هو الا ألم مجزء عبر عصور متتالية .. ومن يديرها اناس اتخذوا من السلطة تجارة بارواح البشر وبجسد الانسانية والحلم فشوهو المطر و اختصبوا اللون وجعلوا من الموسيقى اصوات شاذة لا تطلق الا لتنبح في شوارع خالية إلا من ملامحهم.
مسرحية (مطر الالوان) عمل مسرحي يحاكي واقع ارض لا مطر فيها سوى الموت والصراخ على اجساد مهملة على حافات الطرق تنهشها ذبابات فكر السلطة .. مستفيدا من منهجية (برتولد بريخت)او ما يسمى بالمسرح الملحمي كونه يعتمد على السرد والقص رافضا المبدأ الارسطي القائم على التنويم المعناطيسي الذي يجر المشاهد على الاندماج كليا مع العمل فيولد لديه عاطفتي الخوف والشفقة ومن ثم تبدأ عملية التطهير كل هذا رفضها ( بريخت) وجسدها ( مسعود عارف ) في عمله هذا معتمدا كليا على عقل المشاهد من خلال توعيته بكل ما يحدث من حوله ومن ثم مناقشة مشاكله وتغييرها بهدف ايجاد حياة تكثر فيها الالوان. فالمخرج في هذا العمل كان ملما وناجحا في كيفية توظيف ادواته الاخراجية لخدمة عمله المسرحي بدأ بتوظيف التراث والحكايات الشعبية في العمل المسرحي  حيث وجدنا انفتاحا واضحا من قبل العمل على الاخر وهذا الانفتاح يعد من متطلبات عملية التوظيف والتي تمت بوعي ونضج محاولا الاستفادة من كل منجزاته الايجابية لتقديم وبناء مجتمع انساني يقوم على المفاهيم الاخلاقية والقيمية، وما برر ضرورة قراءة الموروث الانساني في هذا العمل المسرحي هو مساهمته في تأسيس رؤية واضحة او طرح واضح لمشكلات الواقع المعاش. وبما ان التراث هو نتاج ثقافة مكتوبة او منقولة او شفاهية وهو يشكل مجموع التكوينات المميزة للشعوب العالمية فان كل ذلك يؤهله لاعطاء البديل الحقيقي لغياب اي عنصر من عناصر الفعل المسرحي كون استلهامه لابد ان يؤدي الى اثراء اي عمل مسرحي، وقد اشار( الرشيد بوشقير) في احدى محاضراته عن التراث والمسرح قائلا “المسرح بطبيعته لم يكن منأي عن التراث والحكايات الشعبية في كل اطواره وتياراته العالمية باستثناء التجريدية، ففي المسرح الاغريقي الذي نشأ في كنف الاحتفالات باعياد ديونيزيوس وظف التراث الهميري نسبة الى هميروس في اعمال المسرحيين الكبار امثال: اسخيلوس، يوربيدس، سوفوكليس. وكذلك في المسرح الفرنسي الكلاسيكي نهج المسرحيون من التراث الاسطوري الاغريقي وغربلته بما يتناسب مع ثقافتهم ونظرا لارتباط المسرح اليوناني القديم بالدين متداخلا اشد التداخل مع المشاعر والعادات الدينية كانت المسرحية تمثل جزءا هاما من الاحتفالات الدينية الرسمية. فالتراث يعتبر المصدر الوحيد في ظهور عدة مسارح عالمية كالمسرح الايطالي وكوميديا ديلارتي” وفي حقبة المسرح الحديث، اتخذ المسرحيون المحدثون موقفا ايجابيا من توظيف التراث والحكايات الشعبية واستلهامه بناء على رغبة فنية في ايجاد شكل حر قابل للاضافة والتطوير في استيعاب روح العصر فظهرت اعمال مسرحية انطلقت من تراث الامم القديمة، وجاءت اغلب اعمال المسرح الحديث مستنبطة من موضوعات التراث، منها معظم مسرحيات ( بريخت) التي كانت صورا ناطقة بالدور الايجابي الذي يمكن ان يؤديه التراث الشعبي في المسرح. كما وجاءت مسرحية ( الذباب) لـ ( سارتر) معتمدة على اسطورة اغريقية قديمة كما يمكن الاشارة الى تأثر ( البير كامو) في مسرحية ( كاليكولا) بالتراث. وفي هذه المسرحية التي نحن بصدد الكتابة عنها اعتمد المخرج ( مسعود عارف) في تعامله مع الحكايات الشعبية والتراث الانساني مستخدما تقنية رواية الاحداث والتعليق عليها من قبل الراوي – المغني لما يحمله الغناء والموسيقى الدرامية في عمله هذا من دلالات فكرية وجمالية متعددة حيث جاء تعامله هذا بعد ان اكتشف مضامين الموروثات الشعبية وما تحمله من بعد جدلي يمهد للوصول الى الحقيقة في مفهوم صراع الطبقات في اطار يدفع بالمتلقي الى المحاكمة العقلية والجمالية الواعية لتلك الاحداث وتوجيهه الى اتخاذ موقف اجتماعي انساني واضح المعالم ، ولابد الاشارة الى ان اعادة  صياغة وتوظيف التراث هنا لم يكن بهدف احياءه من جديد بل هي صياغة بطريقة واعية قائمة على الاصالة والمعاصرة، وربطه بالفكر واحياء القيم وتلمس الهوية الثقافية للمجتمع الانساني ووحدتها الاجتماعية والسياسية. وفي هذا العمل المسرحي فان المخرج تعامل مع التراث بما يتناسب مع رؤيته الفنية و الفلسفية، دون التخلي عن الامانة العلمية في الحفاظ على اصالة المصدر التراثي لمن يرغب في المتابعة، محاولا ربط الذاتي بالموضوعي وذلك لاكساب التجربة او العمل المسرحي بعدا انسانيا، فالفنان يلجا الى التراث كوسيلة فنية حتى لايسقط في المباشرة التي تقتل جمالية الابداع وهذا ما لاحظنا في عمل المخرج ( مسعود عارف) حيث تم وباتقان فني سلس التفاعل الفني بين الدلالة التراثية كحقيقة تاريخية للمرموز له، وبين الدلالة الفنية المعاصرة كوسيلة فنية بحتة مستخدما التغريب البريختي اي بمعنى تقديم الأمور المألوفة من التراث الانساني في صورة غربية, وهي القوة التي تجبر المتفرجين على رؤية أو إدراك شيء مألوف كما لو انه جديد ويراه لأول مرة بمعنى انه عندما نتعود على رؤية او سماع شيء تعودا تاما يصبح من السهل الاعتقاد بان هذا الشيء هو دائما كذلك وبأنه سيكون كذلك, ولكن عندما يقدم إلينا شيء جديد نعتقد بانه ليس حتميا وعلى هذا نقبله ونقتنع به وقد نرفضه, ولإحداث التغريب استعان المخرج مسعود عارف في إخراجه على بعض صور من حكايا تراثية مستعينا بإمكانيات الممثلين ومضيفا عليها عنصر الجمالية. وقد استطاع ان يكون مجربا فريدا من نوعه في هذا الصدد بمعنى انه حقق في توظيفه للتراث الشعبي استقلالا تاما عن شكل اي مسرح اخر عربيا كان او عالميا لحدما وان كان مستندا في اخراجه على ثوابت عالمية في المسرح، حيث جاءت طروحاته في سياق تنويري مغاير لطروحات في مسارح اقليمية او عربية متضمنة مونولوجات وحوارات محملة بثقل لغوي معبر واستطاع ان يعكس فلسفة الوجود الانساني والفلسفة الكونية والمأزق الوجودي لشخوص التراث الانساني رابطا اياها بشخوص الواقع اليومي وتستبطنها الابنية العميقة والنداءات الخفية لحوارات ابطال هذه المسرحية، فضلا عن جعله للغة الشفهية الموروثة من الذاكرة الانسانية لا بوصفها اداة تواصل لسانية وحسب، بل علامات لسانية استطاعت صياغات الاخراج التأصيلي ان تنقل المتلقي الى عالم سحري غير محدود يطل من خلالها عوالم الميثولوجيا الانسانية بكل ما تحمله من خيال وجمال اخاذ.
المسرحية صورت واقعا لا يزال يعيش على هامش الحياة ابطالها فرقة موسيقية يعزفون على الات من جسد الاوجاع والهموم تحت سقف الحروب المتكررة و الممتدة الابدية  يجسدها ممثلون من طاقات شابة وهم (فرست عزت – محمد عبدالعزيز- هوطر زاهر –  نيروز حسن – عبدالسلام رمضان – سولين بنطين- حسن حسين ) سعى المخرج ان يوظف طاقاتهم بشكل ايجابي جيد وان يستفيد من الحماسة التي تسكنهم وكل واحد منهم عزف بشكل منفرد وعبر عما يسكنه من وجع يختلف ألوانه باختلاف همومهم فمنهم من ضاع منه الامل، ومنهم من ضاع منه المستقبل الذي لم يأتي بعد، ومنهم من فقد عزيزا، ومنهم من فقد نفسه و و و …كل امنيتهم ان يعزفوا معا مجتمعين، فرقة موسيقية زمانها ومكانها معروفين بقعة ارض اسمها كوردستان اهلكها الوجع  وما سلمت لا من اعدائها ولا من سلطتها السياسية، واعمالها جمعت العالمية كلها واهدت رسالتها للبشرية عبر حكايات اممية لشعوب مختلفة تراث    انساني مجدها العزف الصامت من ايدي مبتورة لمايسترو  يظهر في اخر مشهد من المسرحية جمده الحرب فأزال المطر الوان العزف وصمت الجمهور من صمت يديه.               واريد ان اوكده هنا انه كان هناك فسحة اكبر لإظهار الممثلين  طاقاتهم بشكل افضل فما لاحظته نوعا ما عدم توازن في ربط الاحداث مع بعضها بعضا تحديدا في عملية البناء والهدم مما احدث اختلالا في الايقاع العام للمسرحية ربما يرجع السبب الى ان تلك الطاقات الشابة خاضت تجربتها الاولى و مع عمل بهذا المستوى فرغم جديتهم واندفاعهم لتقديم كل ما لديهم الا ان جزءا من ما طمح اليه المخرج لم يظهر على خشبة المسرح، وهذا بالتأكيد لا يقلل من الجهد الذي بذلوه ويحسب للمخرج مجازفته بتقديم العمل مع هذه الطاقات الشابة.
  اذا المسرحية كانت محاكاة لواقع سياسي اجتماعي غير متكافئ  بين سطوة الساسة من جهة ومطالب الشعب من جهة اخرى، فمن حكم هنا لعقود لم يحكم الا لنفسه ولبقائه، واما المحكومون ففي لحظة اكتشفوا حجم الوهم الذي عاشوه و يعيشونه  احلامهم تبددت طموحاتهم صدرت، لحظة اكتشفوا انهم لازالوا في نقطة البداية يبحثون عن لقمة العيش عن انفسهم عن ذواتهم عن احلامهم عن الانسانية كل هذا جسدها العرض المسرحي عبر بناء قصصي حدثي ما ان تم بناءه حتى تبدأ عملية الهدم ليبنى اخر من جديد في عملية تواصلية سلسة اتقنها المخرج واستغل فيها الصور التراثية ووظفها وربطها بالواقع اليومي، والشيء الملفت هنا انه لم تحدث اية عملية تراكمية في الاحداث بحيث يلغي حدث حجم وقوة الاحداث الاخرى بل كلها رغم انها منفصلة الا انها جاءت في الاخير ككتلة موحدة في حيز حي  طبولوجي ذات اشكال  جمالية  ومضامين فكرية تداعب العقل وتمهد للروح السفر في خباياها والمخرج معروف عنه انه دائما وفي كل اعماله يترك فسحة للهدوء والسكينة كي يجعل من المتلقي ان يستجمع قواه من جديد ويدخل معركة فكرية وذاك من خلال مشهد الشموع والحوار المبني على المشاركة سواء في الحب او الموت او العيش او او …. كل هذا جعل المتلقي يشعر بانه الجزء الاهم في الحدث مما يدفعه ان يحدد مكانه بين تلك الالوان التي تهددها الامطار عله ينقذ لونا ليعيش في كنفه هنيئا في المستقل لون يحدد الاتي من حياته كفرد وكمجتمع .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *