علينا في البداية  التعرف على بخيتار علي,هو روائي ومفکر وناقد أدبي وشاعر كردي عراقي ولد في سنة 1960 في مدينة السليمانية  في العراق، هاجر في عقد 1990 إلى ألمانيا وإستقر في مدينة بون، أصدر عدة روايات، منها (رمانة العالم الأخیرة، موت الوحيد الثاني، مساء الفراشة، مدينة الموسيقيین البيضاء، الغزلي و حدائق الخيال، غيوم دانيال، قصر الطيور الحزينة، سفينة الملائكة) و ثلاثة مجموعات شعرية (إلی مأتم الورد إلی دم الملاك، الإشتغال في أدغال الفردوس، يا مرفأ الصديق يا سفينة العدو) واشتهرت أعماله عن محاكاة الوضع السياسي الكردي في العراق وعن قضية حملة تهجير الأنفال بالخصوص.

في مقال له بمجلة ألمانية أبدى الناقد والمتسعرب الألماني شتيفان فايدنر دهشته من بقاء الكاتب الكردي العراقي بختيار علي مجهولاً للقاريء الأوروبي حتى الآن. وهو لم يعبر عن هذه الدهشة إلا بعد أن ترجمت إحدى روايات  إلى الألمانية.

رواية “الرمانة الأخيرة في الدنيا”، التي صدرت بالألمانية عن دار نشر سويسرية أذهلت الناقد وفاجأت القارىء الألماني في آن معاً.

والرواية كانت من قبل أدهشت القارئ الكردي حين صدرت في السليمانية عام ٢٠٠٢، ثم تردد صداها في إيران حين ترجمت إلى الفارسية عام  ٢٠١٥.

قصة البحث عن الابن الضائع

تبدأ الرواية بالإفراج عن مظفر سوبحدام. مظفر أسير من قوات البشمركة، قضى عشرين سنةً من عمره في زنزانة منفردة في سجن وسط الصحراء. بعد إخلاء سبيله يذهب مظفر إلى قصر أحد أصدقائه القدامى، القائد الثوري المنتصر يعقوب صنوبر. في أعماق نفسه، أدار مظفر ظهره، ومنذ زمن بعيد، للدنيا وبهرجها. فهو مهوس ومسكون بفكرة إيجاد ابنه، سرياسي، الذي تركه طفلاً رضيعاً. تدور أحداث الرواية حول البحث عن هذا الابن الضائع.

تتحول رحلة البحث هذه إلى غوص في التاريخ الكابوسي الحديث لأكراد العراق، بدءاً من الانتفاضات ضد صدام حسين في الثمانينيات، والتي تم التغلب عليها باستخدام السلاح الكيماوي، وصولاً إلى الحرب الأهلية الكردية بعد الحصول على الحكم الذاتي في التسعينيات بين جلال الطالباني ومسعود البارزاني. ولكن رواية “آخر رمان الدُّنيا” ليست رواية تاريخية، وليست تأريخياً لمرحلة ما، بل رواية حول كيفية تأثير التاريخ على البشر وكيف يمكن للبشر تَحمّل أحداث التاريخ، إذا استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

أطفال ضائعون…ضحايا الحقبة الحالكة الظلمة

يتحول بحث مظفر عن ابنه إلى بحث عن ثلاثة أطفال. إذ أن هناك ثلاثة أطفال كحال ابنه ويحملون

نفس الاسم أيضاً، سرياسي، وثلاثتهم شربوا كأساً من عصير الرمان وهم في المهد. ترمز قصص الأطفال الثلاث إلى جيل الأطفال الضائع، المُيتم، من تلك المرحلة المظلمة من تاريخ كردستان العراق.

يكتسب أحد الأطفال، سرياسي الأول، احترام الباعة المتجولين، الذين يتعرضون لمضايقات الشرطة، ويغدو كالبطل الأسطوري روبن هود. أما سرياسي الثاني فيتورط في المعارك، ويصبح بلا روح يبحث عن الموت في ساحات القتال، ولكن عبثاً، فالموت لا يقبل به. يتبادل مظفر الرسائل الصوتية بواسطة أشرطة الكاسيت مع الطفل سرياسي الثاني، الذي يقبع في حبس انفرادي. بعد هذه التجربة، يصبح بالنسبة لمظفري سيّان مَن هو ابنه الحقيقي، فهدف البحث عن ابنه ليس العثور عليه، بل المصالحة مع الماضي والتكفير عن أخطاء هذا الماضي.

أخيراً يقودنا طفل آخر يدعى “النجمة السوداء”، وهو اسم نُسِبَ إليه بسبب الحروق التي أصابته في الحرب، إلى الطفل الثالث، سرياسي الثالث، الذي يكون من بين العائدين إلى الوطن بعد خمود نيران الحرب، ما يجعل مظفر قادراً على تحمل كل هذا القدر من الرعب هو إيمانه العميق بمهمته. “حالما احتضنت الطفل الُمرهق إلى حد يبدو وكأنه بقايا إنسان، الحاضر جسدياً والغائب ذهنياً، بدأ شيء ما في داخلي بالإشعاع. هنا أدركت أن الأمر بحاجة لقسم لا يُحنث به. قسم أكبر بكثير من الأبوة والحب والشفقة”.

الحب الصوفي والروحي للإنسانية جمعاء

بلا شك، فإن هذا النوع من الأدب مدين للواقعية السحرية.

غير أنها واقعية سحرية شرقية تنبع من مصادر أكثر قدماً من الواقعية السحرية لآداب أمريكا اللاتينية. تعتاش وتتغذى الرواية على صوفية الوجود الجواني للأفراد، وجوهر هذا الوجود هو اعتماد البشر بعضهم على بعض وارتباط مصير بعضهم ببعض. لا تؤثر الصوفية في تشكيل شخصيات الرواية فقط، بل تؤثر على طريقة بختيار في الكتابة وصولاً إلى أعماق وتفاصيل أسلوبه الأدبي. وتتلخص هذه النزعة الصوفية المخاطبة للإنسانية جمعاء في أحد جمل الرواية: “وكما أن جزءاً من حياتنا ممزوج بحيوات الآخرين، هناك في حياتنا جزء من حيوات الآخرين، وهناك أيضاً جزء من موتنا في موت الآخرين. عندما يموت أحد ما، يموت جزء منا معه”.

بتكشف الوضع السردي للرواية بعد الغوص فيها والاستمتاع بقراءتها، ندرك أن مظفر يروي قصته لرفاق المصير المشترك على ظهر قارب لجوء في قلب البحر الأبيض المتوسط متجهاً إلى أوروبا. يربط هذا الشيء، وبشكل مذهل، ما حدث في الرواية، التي صدرت قبل أكثر من ثلاثة عشر سنةً، بحاضرنا اليوم وموجة اللاجئين التي وصلت أوروبا العام الفائت 2015.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *